فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (175- 176):

{فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}
ولما أشار في هذه الآية إلى الرسول الأصفى والنبي الأهدى، المجبول على هذا العقل الأقوم الأجلي، والكتاب الأتم الأوفى، الجاري على هذا القانون الأعلى، الوافي تعبيره الوجيز بأحكام الأولى والأخرى، الكفيل سياقه وترتيب آياته بوضوح الأدلة وظهور الحجج؛ أخذ يقسم المنذرين فقال تعالى: {فأما الذين آمنوا بالله} أي الذي اتضح أنه لا أمر لأحد معه في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه بما دل عليه قاطع البرهان {واعتصموا به} أي جعلوه عصاماً لهم في الفرائض التي هي من أعظم مقاصد هذه السورة، يربطهم ويضبطهم عن أن يضلوا بعد الهدى، ويرجعوا من الاسبتصار إلى العمى، لأن العصام هو الرابط للوعاء أن يخرج شيء مما فيه، وصيغة الافتعال تدل على الاجتهاد في ذلك، لأن النفس داعية إلى الإهمال المنتج للضلال {فسيدخلهم} أي بوعد لا خلف فيه، ولعل السين ذكرت لتفيد مع تحقيق الوعد الحثَّ على المثابرة والمداومة على العمل إشارة إلى عزة ما عنده سبحانه {في رحمة منه} أي ثواب عظيم هو برحمته لهم، لا بشيء استوجبوه، وأشار إلى البر على ما تقتضيه أعمالهم لو كانت لهم بقوله: {وفضل} أي عظيم يعلمون أنه زيادة، لا سبب لهم فيها {ويهديهم} أي في الدنيا والآخرة {إليه صراطاً} أي عظيماً واضحاً جداً {مستقيماً} أي هو مرشد قومه، كأنه طالب لتقويم نفسه، فهو يوصلهم لا محالة إلى وعده بما يحفظهم في سرهم وعلنهم، يستجلي أنوار عالم القدس في أرواحهم وتوفيقهم لاتباع ما هدت إليه من أمر الفرائض وغيرها، فقد أتى- كما ترى- بأما المقتضية للتقسيم لا محالة، وأتى بأحد القسمين المذكورين في الآية التي قبلها، ووصفهم بالاعتصام بالله في النصرة وقبول جميع أحكامه في الفرائض غيرها، وافقت أهويتهم أو خالفتها، تعريضاً للمنافقين الذين والوا غيرهم، وبالكافرين الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وترك القسم الآخر وهو قسم المستنكفين والمستكبرين، ووضع موضعه حكماً من أحكام الفرائض المفتتح بها السورة التي هي من أعظم مقاصدها من غير حرف عطف، بل بكمال الاتصال، فقال منكراً عليهم تكرير السؤال عن النساء والأطفال بعد شافي المقال، مبيناً أنه قد هدى في ذلك كله أقوم طريق: {يستفتونك} أي يسألونك أن تفتيهم، أي أن تبين لهم بما عندك من الكرم والجود والسخاء ما انغلق عليهم أمره وانبهم لديهم سره من حكم الكلالة، وللاعتناء بامر المواريث قال إشارة إلى أن الله لم يكل أمرها إلى غيره: {قل الله} أي الملك الأعظم {يفتيكم في الكلالة} وهو من لا ولد له؛ ولا والد روى البخاري في التفسير عن البراء رضي الله عنه قال: آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة}، وقال الأصبهاني عن الشعبي: اختلف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في الكلالة، فقال أبو بكر: هو ما عدا الوالد، وقال عمر: ما عدا الوالد والولد، ثم قال عمر: إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر رضي الله عنه؛ ثم استأنف قوله: {إن امرؤ هلك} أي وهو موصوف بأنه، أو حال كونه {ليس له ولد} أي وإن سفل سواء كان ذكراً أو أنثى عند إرث النصف، وليس له أيضاً والد، فإن كان له أحدهما لم يسم كلالة وقد بينت ذلك السنة؛ قال الأصبهاني: وليسا بأول حكمين بُينَ أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر، والأب أولى من الأخ» {و} الحال أنه {له أخت} أي واحدة من أب شقيقة كانت أو لا، لأنه سيأتي أن أخاها يعصبها، فلو كان ولد أم لم يعصب {فلها نصف ما ترك وهو} أي وهذا الأخ الميت {يرثها} أي إن ماتت هي وبقي هو، جميع مالها {إن لم يكن لها ولد} أي ذكراً كان أو أنثى- كما مر في عكسه، هذا إن أريد بالإرث جميع المال، وإلا فهو يرث مع الأنثى كما أنها هي أيضاً ترث مع الأنثى- كما يرشد إليه السياق أيضاً- دون النصف.
ولما بين الأمر عند الانفراد أتبعه بيانه عند الاجتماع، وقدم أقله فقال: {فإن كانتا} أي الوارثتان ببيان السياق لهما وإرشاده إليهما؛ ولما أضمر ما دل عليه السياق، وكان الخبر صالحاً لأن يكون: صالحتين، أو صغيرتين، أو غير ذلك؛ بين أن المراد- كما يرشد إليه السياق أيضاً- مطلق العدد على أي وصف اتفق فقال: {اثنتين} أي من الأخوات للأب شقيقتين كانتا أو لا {فلهما الثلثان مما ترك} فإن كانت شقيقتين كان لكل منهما ثلث، وإن اختلفتا كان للشقيقة النصف وللتي للأب فقط السدس تكملة الثلثين.
ولما بين أقل الاجتماع أتبعه ما فوقه فقال: {وإن كانوا} أي الوارث {إخوة} أي مختلطين {رجالاً ونساء فللذكر} أي منهم {مثل حظ الأنثيين} وقد أنهى سبحانه ما أراد من بيان إرث الأخوة لأب، فتم بذلك جميع أحوال ما أراد من الإرث، وهو على وجازته كما ترى- يحتمل مجلدات- والله الهادي، ووضع هذه الآية هنا- كما تقدم- إشارة منه إلى أن من أبى توريث النساء والصغار الذي تكرر الاستفتاء عنه فقد استنكف عن عبادته واستكبر وإن آمن بجميع ما عداه من الأحكام، ومن استنكف عن حكم من الأحكام فذاك هو الكافر حقاً، وهذا مراد شياطين أهل الكتاب العارفين بصحة هذه الأحكام، الحاسدين لكم عليها، المريدين لضلالكم عنها لتشاركوهم في الشقاء الذي وقع لهم لما بدلوا الأحكام المشار إليهم بعد ذكر آيات الميراث وما تبعها من أحوال النكاح بقوله:
{يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} [النساء: 26] وقوله: {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً} [النساء: 27] ثم المصرح بهم في قوله: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم} [النساء: 44] ولذلك- والله أعلم- ختم هذه الآية بقوله: {يبين الله} أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {لكم} أي ولم يكلكم في هذا البيان إلى بيان غيره، وقال مرغباً مرهباً: {أن} أي كراهة أن {تضلوا والله} أي الذي له الكمال كله {بكل شيء عليم} أي فقد بين لكم بعلمه ما يصلحكم بيانه محياًَ ومماتاً دنيا وأخرى، حتى جعلكم على المحجة البيضاء في مثل ضوء النهار، لا يزيغ عنها منكم إلا هالك، والحاصل أن تأخير هذه الآية إلى هنا لما تقدم من أن تفريق القول فيما تأباه النفوس وإلقاءه شيئاً فشيئاً باللطف والتدريج أدعى لقبوله، وللإشارة إلى شدة الاهتمام بأمر الفرائض بجعل الكلام فيها في جميع السورة أولها وأثنائها وآخرها، والتخويف من أن يكون حالهم كحال المنافقين في إضلال أهل الكتاب لهم بإلقاء الشبهة وأخذهم من الموضع الذي تهواه نفوسهم ومضت عليه أوائلهم، وأشربته قلوهبم، والترهيب من أن يكونوا مثلهم في افيمان ببعض والكفر ببعض، فيؤديهم ذلك إلى إكمال الكفر، لأن الدين لا يتجزأ، بل من كفر بشيء منه كفر به جميعه، ومن هنا ظهرت مناسبة آخر هذه السورة لأولها، لأن أولها مشير إلى أن الناس كلهم كشيء واحد، وذلك يقتضي عدم الفرق بينهم إلا فيما شرعه الله، وآخرها مشير إلى ذلك بالتسوية بين النساء والرجال في مطلق التوريث بقرب الأرحام وإن اختلفت الأنصباء، فكأنه قيل: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، وسوى بينهم فيما أراد من الأحكام فإنه من استكبر- ولو عن حكم من أحكامه- فسيجازيه يوم الحشر، ولا يجد له من دون الله ناصراً؛ ولا يخفى عليه شيء من حاله، وما أشد مناسبة ختامها بإحاطة العلم لما دل عليه أولها من تمام القدرة، فكان آخرها دليلاً على أولها لأن تمام العلم مستلزم لشمول القدرة، قال الإمام: وهذان الوصفان هما اللذان بهما ثبتت الربوية والإلهية والجلال والعزة، وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعاًَ للأوامر والنواهي منقاداً لكل التكاليف- انتهى. ولختام أول آية فيها بقوله: {إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء: 1] أي وهو بكل شيء من أحوالكم وغيرها عليم، فلا تظنوا أنه يخفى عليه شيء وإن دقَّ، فليشتد حذركم منه ومراقبتكم له، وذلك أشد شيء مناسبة لأول المائدة- والله الموفق بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

.سورة المائدة:

.تفسير الآية رقم (1):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}
مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه واستدفاعاً لنقمة، وقصة المائدة أدل ما فيها على ذلك، فإن مضمونها أن من زاغ عن الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأحبار.
{بسم الله} أي الذي تمت كلماته فصدقت وعوده وعمت مكرماته {الرحمن} الذي عم بالدعاء إلى الوفاء في حقوقه وحقوق مخلوقاته {الرحيم} الذي نظر إلى القلوب فثبت منها على الصدق ما جبّله على التخلق بصفاته.
لما أخبر تعالى في آخر سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام المشار إليها بقوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام: 146]، واستمر تعالى في هتك أستارهم وبيان عوارهم إلى أن ختم بآية في الإرث الذي افتتح آياته بالإيصاء وختمها بأنه شامل العلم، ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذي اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذي جلُّ مبناه القلب الذي هو عيب، فقال مشيراً إلى أن الناس الذين خوطبوا أو تلك الأهلوا لأول أسنان الإيمان ووصفوا بما هم محتاجون إليه، وتخصيصهم مشير إلى أن من فوقهم من الأسنان عنده من الرسوخ ما يغنيه عن الحمل بالأمر، وذلك أبعث له على التدبر والأمتثال: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم {أوفوا} أي صدقوا ذلك بأن توفوا {بالعقود} أي العهود الموثقة المحكمة وهي تعم جميع أحكامه سبحانه فيما أحل أو حرم أو ندب على سبيل الفرض أو غيره، التي من جملتها الفرائض التي افتتحها بلفظ الإيصاء الذي هو من أعظم العهود، وتعم سائر ما بين الناس من ذلك، حتى ما كان في الجاهلية من عقد يدعو إلى بر، وأما غير ذلك فليس بعقد، بل حل بيد الشرع القوية، تذكيراً بما أشار إليه قوله تعالى في حق أولئك {اذكروا نعمتي وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون} [البقرة: 40] وإخباراً لهم بأنه أحل لهم ما حرم على أولئك، فقال على سبيل التعليل مشيراً إلى أن المقصود من النعمة كونها، لا بقيد فاعل مخصوص، وإلى أن المخاطبين يعلمون أنه لا منعم غيره سبحانه: {أحلت لكم} والإحلال من أجل العقود {بهيمة} وبينها بقوله: {الأنعام} أي أوفوا لأنه أحلّ لكم بشامل علمه وكامل قدرته لطفاً بكم ورحمة لكم ما حرم على من قبلكم من الإبل والبقر والغنم بإحلال أكلها والانتفاع بجلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من شأنها، فاحذروا أن تنقضوا كما نقضوا، فيحرم عليكم ما حرم عليهم، ويعد لكم من العقاب ما أعد لهم، ولا تعترضوا على نبيكم، ولا تتعنتوا كما اعترضوا وتعنتوا، فإن ربكم لا يسأل عما يفعل، وسيأتي في قوله:
{لا تسئلوا عن أشياء} [المائدة: 101] ما يؤيد هذا.
ولما كانوا ربما فهموا من هذا الإحلال ما ألفوا من الميتات ونحوها قال مستثنياً من نفس البهيمة، وهي في الأصل كل حي لا يميز، مخبراً أن من أعظم العقود ما قدم تحريمه من ذلك في البقرة: {إلا ما يتلى عليكم} أي في بهيمة الأنعام أنه محرم، فإنه لم يحل لكم، ونصب {غير محلي الصيد} على الحال أدل دليل على أن هذا السياق. وإن كان صريحه مذكراً بالنعمة لتشكر- فهو مشار به إلى التهديد إن كُفِرَت، أي أحل لكم ذلك في هذه الحال، فإن تركتموها انتفى الإحلال، وهذه مشيرة إلى تكذيب من حرم من ذلك ما أشير إليه بقوله تعالى في التي قبلها حكاية عن الشيطان {ولآمرنهم فليبتكن أذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} [النساء: 119] من السائبة وما معها مما كانوا اتخذوه ديناً، وفصّلو فيه تفاصيل- كما سيأتي صريحاً في آخر هذه السورة بقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة} [المائدة: 103] الآية، وكذا في آخر الأنعام، وفي الأمر بالوفاء بالعقود بعد الإخبار بأنه بكل شيء عليم غاية التحذير من تعمد الإخلال بشيء من ذلك وإن دق، وفي افتتاح هذه المسماة بالمائدة بذكر الأطعمة عقب سورة النساء- التي من أعظم مقاصدها النكاح والإرث، المتضمن للموت المشروع فيهما الولائم والمآتم. أتم مناسبة، وقال ابن الزبير: لما بين تعالى حال أهل الصراط المستقيم، ومن تنكب عن نهجهم، ومآل الفريقين من المغضوب عليهم والضالين، وبين لعباده المتقين ما فيه هداهم وبه خلاصهم أخذاً وتركاً، وجعل طي ذلك الأسهم الثمانية الواردة في حديث حذيفة رضي الله عنه في قوله: «الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم والشهادة سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له» قلت: وهذا الحديث أخرجه البزار عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم» فذكره، وصحح الدارقطني وقفه، ورواه أبو يعلى الموصلي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً والطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام عشرة أسهم، وقد خاب من لا سهم له: شهادة أن لا إله إلا الله سهم وهي الملة، والثانية: الصلاة وهي الفطرة، والثالثة: الزكاة وهي الطهور، والرابعة: الصوم وهي الجنة، والخامسة: الحج وهي الشريعة، والسادسة: الجهاد وهي الغزوة، والسابعة: الأمر بالمعروف وهو الوفاء والثامنة: النهي عن المنكر وهي الحجة، والتاسعة: الجماعة وهي الألفة، والعاشرة: الطاعة وهي العصمة» وفي سنده من ينظر في حاله؛ قال ابن الزبير: وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس» أي في الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر وغيره واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان» قال ابن الزبير: وقد تحصلت- أي الأسهم الثمانية والدعائم الخمس- فيما مضى، وتحصل مما تقدم أن أسوأ حال المخالفين حال من غضب الله عليه ولعنه، وأن ذلك ببغيهم وعداوتهم ونتقضهم العهود {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} [المائدة: 13] وكان النقض كل مخالفة، قال الله تعالى لعباده المؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] لأن اليهود والنصارى إنما أتى عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود، فحذر المؤمنين- انتهى. والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية المذكورة في الأنعام وما شابهها من حيوان البر، ولكون الصيد مراد الدخول في بهيمة الأنعام استثنى بعض أحواله فقال: {وأنتم حرم} أي أحلت البهيمة مطلقاً إلا ما يتلى عليكم من ميتاتها وغيرها في غير حال الدخول في الإحرام بالحج أو العمرة أو دخول الحرم، وأما في حال الإحرام فلا يحل الصيد أكلاً ولا فعلاً.
ولما كان مدار هذه السنة على الزجر والإحجام عن أشياء اشتد ألفهم لها والتفاتهم إليها، وعظمت فيها رغباتهم من الميتات وما معها، والأزلام والذبح على النصب، وأخذ الإنسان بجريمة الغير، والفساد في الأرض، والسرقة والخمر والسوائب والبحائر- إلى غير ذلك؛ ذكّر في أولها بالعهود التي عقدوها على أنفسهم ليلة العقبة حين تواثقوا على الإسلام من السمع والطاعة في المنشط والمكر والعسر واليسر فيما أحبوا وكرهوا، وختم الآية بقوله معللاً: {إن الله} أي ملك الملوك {يحكم ما يريد} أي من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق كالأنعام، وفي حال دون حال كما شابهها من الصيد، فلا يسأل عن تخصيص ولا عن تفضيل ولا غيره، فما فهمتم حكمته فذاك، وما لا فكلوه إليه، وارغبوا في أن يلهمكم حكمته؛ قال الإمام- وهذا هو الذي يقوله أصحابنا-: إن علة حسن التكليف هو الربوبية والعبودية، لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصلحة.